لا يبدأ الأمان حين تُغلق الأبواب، ولا حين تخفت الأضواء وتُشدد الأحضان. الأمان الحقيقي في حياة الطفل يبدأ من حيث لا يراه أحد: في نبرة الصوت التي يُنادى بها، في نظرة العين التي تستقبله صباحا، في طريقة الاستجابة لبكائه الأول، في الصمت الذي لا يُكسر بغضب، وفي الكلمات التي لا تخذله حتى حين يخطئ.
شعور الطفل بالأمان ليس رفاهية تربوية، بل هو اللبنة الأولى في بنيان شخصيته، والشرط الأساسي لتفتح روحه، وثقته بالعالم من حوله.
وكل ما نراه لاحقا من سلوكيات من توازن أو اضطراب، من قدرة على الحب أو صعوبة في التواصل، يعود إلى جذور هذا الشعور المبكر الذي لا يُرى، لكنه يُعاش بكل كيان الطفل.
الأمان في الطفولة لا يعني فقط غياب الخطر، بل حضور الطمأنينة. هو أن يعرف الطفل أن هناك من يراه، من يسمعه، من يستوعب مشاعره حتى من دون أن يشرحها.
أن يشعر بأن العالم، كما يتجسّد في والديه، ليس مهددا أو مشروطا أو متقلّبا.
هو الإحساس بأن الحب لا يُسحب عند الخطأ، وأن الغضب لا يعني الانفصال، وأن الحزن لا يواجه بالسخرية أو التجاهل.
يُبنى شعور الأمان عبر تفاصيل صغيرة، لكنها مستمرة، مثل:
أن تكون استجابة الأهل متوقعة وثابتة، فلا يشعر الطفل بالحيرة تجاه ردود الفعل.
أن يُسمح له بالتعبير عن مشاعره من دون أن يُقاطع أو يُهزأ بها.
الحضن، اليد التي تمسح على الشعر، النظرة التي تقول: "أنا هنا" قبل أن تُنطق.
لأن الطفل لا يشعر بالأمان حين يكون المتاح له بلا ضوابط، بل حين يفهم ما يُنتظر منه ضمن مساحة حب واحترام.
أن يكون للطفل وقت خاص به حيث يجلس الأب أو الأم معه من دون هاتف، من دون استعجال، ولو عشر دقائق يوميا، يُشعره أنه أولويّة.
حين يُربى الطفل في بيئة لا توفر له الأمان العاطفي، يبدأ بالتكيّف عبر أساليب دفاعية:
وغالبا ما يحمل هذا الطفل مشاعره المؤجلة إلى حياته المستقبلية: في علاقاته، في ثقته بالآخرين، وفي حواره الداخلي مع نفسه.
نعم؛ لأن الأمان لا يرتبط فقط بالطفولة المبكرة، بل هو شعور قابل للاستعادة، إذا توفرت له المساحة الآمنة. يمكن للطفل حتى لو كبر أن يختبر مشاعر أمان جديدة عبر:
شعور الطفل بالأمان هو القاعدة التي تُبنى عليها كل إمكانياته اللاحقة: أن يكتشف، أن يُخطئ ويتعلم، أن يحِب ويُحَب، أن يُبدع دون خوف. هو ليس ترفا تربويا، بل حق أساسي، وجذر عميق إن صلُح، صلحت معه الشجرة كلّها.
وفي عالم يمضي بسرعة، تظل يد الأمان التي تُمدّ إلى الطفل لا حين ينجح، بل حين يتعثر؛ أعظم هدية تُمنح له، وأكثر ما يبقى في ذاكرته، وإن نسي كل شيء آخر.