من اللحظة التي تبدأ فيها الحياة بالتكوّن داخل رحم الأم، تنطلق رحلة خفية وعميقة لا يشعر بها الكثيرون، لكنها تترك أثرًا بالغًا في شخصية الطفل ونموه لاحقًا. إنها رحلة تبدأ ليس حين يلفظ الصغير كلمته الأولى، بل حين يكون لا يزال جنينًا، يستكين إلى صوت أمه، ويصغي لِما تقوله، ويلتقط بإحساسه الفطري نبرات صوتها وإيقاع كلامها.
وبينما تنشغل الأمهات بترقّب اللحظة التي سينطق فيها الطفل بـ"ماما" أو "بابا"، يغفل الكثيرون عن أن تلك اللحظة لم تكن البداية الحقيقية، بل نتيجة لرحلة لغوية مبكرة بدأت منذ الأشهر الأخيرة للحمل. في تلك المرحلة، يبدأ الجنين في التعرّف على لغة الحياة، ليس عبر الكلمات، بل من خلال الإيقاع والنغمة والتناغم، فيستقبل صوته الأول من العالم الخارجي: صوت أمه.
في هذا المقال، نكتشف معًا كيف تسهم هذه التجربة المبكرة في تمهيد الطريق لتطور اللغة والكلام، وكيف يصبح صوت الأم بمثابة البوابة الأولى التي يدخل منها الطفل إلى عالم التواصل الإنساني.
بحلول الأسبوع السادس والعشرين إلى الثامن والعشرين من الحمل، يكون الجهاز السمعي لدى الجنين قد اكتمل نموه بدرجة تسمح له بالاستماع إلى الأصوات من داخل وخارج الرحم.
ورغم أن السائل الأمينوسي وجدار البطن يعزلان بعض الترددات العالية، فإن الجنين يكون قادرًا على التقاط النغمات والإيقاعات المنخفضة، وهي العناصر الجوهرية في الكلام.
في هذا المحيط المغلق، يسمع الجنين صوت نبضات قلب أمه، وتنفسها، وأصوات جهازها الهضمي، لكن أكثر ما يتردد في أذنه بانتظام هو صوت أمه. هذا الصوت المألوف، بإيقاعه ونبرته، يصبح مرجعًا سمعيًّا أوليًّا يرسّخ الارتباط بين الأم وطفلها، ويمهّد له الطريق لفهم اللغة في وقت لاحق.
تشير الدراسات إلى أن الأطفال حديثي الولادة يُظهرون تفاعلًا واضحًا عند سماع صوت أمهاتهم مقارنةً بأصوات نساء أخريات. وقد رُصد ارتفاع معدل نبضات قلب الجنين عندما يسمع صوت أمه عبر مكبر صوت وُضع على بطنها، في دلالة على تمييزه لهذا الصوت واستجابته له.
الأمر المثير أن هذه التجربة المبكرة لا تقتصر على التعوّد، بل تهيّئ الدماغ فعليًّا لتلقي اللغة. فتعرض الجنين لنمط الكلام، حتى وإن كان مشوشًا أو محدود التردد، يساعده لاحقًا على التمييز بين أصوات الحروف، والتعرف على لغة أمه، بل وحتى رصد النغمات العاطفية في الصوت.
في تطور لافت، أظهرت بعض دراسات التصوير بالموجات فوق الصوتية أن الأجنة تحرك شفاهها وتقوم بحركات شبيهة بإنتاج أصوات الحروف المتحركة عند سماعها. هذه الحركات قد تعكس بداية تشكّل الروابط العصبية بين حاسة السمع والعضلات المرتبطة بالكلام، في ما يشبه التدريب الصامت على النطق.
يتعدى تأثير صوت الأم الجانب اللغوي، ليصل إلى مستويات أعمق في الصحة النفسية والنمو العاطفي والاجتماعي. فقد أظهرت الأبحاث أن الأطفال الخدّج الذين يتعرضون لصوت أمهاتهم داخل وحدات العناية المركزة يتمكنون من الرضاعة بشكل أفضل، ويكتسبون الوزن بسرعة أكبر، ويتفاعلون اجتماعيًّا بشكل أعمق.
وفي دراسة حديثة، ارتفعت معدلات التواصل والمهارات اللغوية لدى الأطفال الذين سُجّل لهم تعرض مستمر لصوت الأم خلال الأشهر الأولى، مقارنة بأقرانهم الذين لم يحصلوا على هذا التفاعل.
لا عجب إذًا أن يكون لصوت الأم هذا التأثير العميق، فهو أول صوت نسمعه، وأول علاقة نختبر فيها الأمان، وأول خطوة في رحلة التعلم والتواصل. بل إن نبرة صوتها، بنعومتها ودفئها، قادرة على خفض مستويات التوتر ورفع هرمون "الأوكسيتوسين" المرتبط بالتواصل العاطفي.
حتى في مراحل لاحقة، أثبتت إحدى الدراسات أن الفتيات اللاتي يتعرضن لمواقف ضاغطة تنخفض لديهن نسبة هرمون التوتر (الكورتيزول) وترتفع لديهن نسبة "الأوكسيتوسين" بعد سماع صوت الأم، وليس فقط بمجرد تلقي رسالة نصية منها.
صوت الأم ليس مجرد وسيلة للتواصل، بل هو نغمة الحياة الأولى التي تُطبع في ذاكرتنا قبل أن نفتح أعيننا على هذا العالم. هو البداية لكل ما نتعلّمه، ونفهمه، وننطقه لاحقًا. وبينما نحتفل بيوم الأم، لعلنا نتذكر أن تعليمها لنا لم يبدأ بالكلمات، بل بالصوت، من الرحم.