في عالم يزدحم بالضغوط الاجتماعية وتوقعات المحيطين، تغدو التفرقة بين الطيبة الحقيقية والتنازل المزمن عن الذات أمرًا بالغ الصعوبة.
كثيرون منّا نشأوا وهم يعتقدون أن قول "نعم" في كل موقف هو مفتاح القبول، وأن الرفض قد يجرح الآخرين أو يترك انطباعًا سيئًا عنّا.
نمدّ أيدينا للمساعدة، نستجيب لكل طلب، نتماهى مع احتياجات الجميع… ثم نعود إلى أنفسنا متعبين، مشوشين، متسائلين: هل أنا فعلًا طيّب؟ أم أنني فقط لا أعرف كيف أقول "لا"؟
الطيبة، حين تُفهم خطأ، تتحول من فضيلة إلى عبء. فالرغبة في أن نكون محبوبين قد تدفعنا إلى تجاوز حدودنا مرارًا، إلى إرضاء الآخرين على حساب راحة بالنا، وحتى إلى السكوت حين يجب أن نتكلّم.
المشكلة لا تكمن في الطيبة بحد ذاتها، بل في غياب الحدود التي تحميها وتمنحها معناها الحقيقي.
في هذا المقال، نتأمل معًا هذا الخط الرفيع بين الكرم في المشاعر والانهزام أمام التوقعات، ونطرح السؤال الجوهري: هل أنت طيّب فعلًا… أم أنك فقط تخشى أن ترفض؟
من السهل أن يخلط البعض بين الحزم والأنانية، وبين الرفض والفظاظة. فكم من مرة قلتَ "نعم" وأنت في داخلك تشعر بأنك ترغب بقول "لا"؟ كم مرة خفت أن ترفض طلبًا حتى لا تُوصم بأنك غير متعاون أو بارد المشاعر؟
الحقيقة أن الطيبة ليست نقيض الرفض، بل قد يكون الرفض أصدق أشكال الطيبة إن كان يُجنّبك الغضب المكبوت أو الاستنزاف العاطفي.
تتحول الطيبة إلى عبء حين يشعر صاحبها أنه مجبر على تلبية كل ما يُطلب منه، حتى إن كانت قدرته لا تسمح، أو رغباته لا تتفق.
قد يرافق ذلك شعور دائم بالإرهاق، أو إحساس بالاستغلال، أو حتى لوم داخلي متكرر: "لماذا وافقت؟ لماذا لم أرفض؟"
هذا النوع من السلوك، رغم أنه يبدو "لطيفًا"، قد يقود في النهاية إلى تراكم المشاعر السلبية، وإلى علاقات غير متوازنة، بل وإلى حالة من الاحتراق العاطفي.
السبب غالبًا لا يعود فقط إلى التربية، بل إلى مزيج من التجارب السابقة، والخوف من الرفض، والسعي إلى نيل القبول بأي ثمن.
فمن نشأ في بيئة يُكافَأ فيها الطفل حين يكون "ولدًا جيدًا"، وقد يُعاقَب أو يُنتقَد إذا عبّر عن رفضه، يكبر وهو يربط بين المحبة والموافقة، وبين القبول الشخصي والتنازل عن الذات.
الطيبة ليست في أن ترضى الجميع، بل أن تتصرّف من قلب صادق، دون أن تتعدى على ذاتك. وحتى تكون طيّبًا دون أن تُستغل:
أن تكون طيّبًا لا يعني أن تُشعل نفسك نورًا لغيرك حتى تنطفئ. لا يعني أن تقول "نعم" بينما قلبك يصرخ "لا".
أن تكون طيّبًا حقًا، يعني أن تحب بوعي، أن تعطي بحدود، وأن تُرضي نفسك كما تُرضي غيرك.
لذا، في المرة القادمة التي يُطلب منك شيء لا يناسبك، اسأل نفسك أولًا:
هل هذا نابع من طيبتي؟ أم من خوفي من قول "لا"؟