في لحظات السكون النادرة، حين يتوقف الضجيج الخارجي ونصغي أخيرًا لما يدور في دواخلنا، قد نفاجأ بسؤال بسيط لكنه ثقيل الوَقع: "ما نوع التعب الذي أعيشه؟"
هل هو مجرد إنهاك جسدي يحتاج إلى نوم عميق؟ أم أن هناك شيئًا أعمق، أكثر استعصاءً، لا يمكن علاجه بكوب قهوة أو عطلة قصيرة؟
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، ونتنقّل بين المهام والضغوط دون فرصة حقيقية للوقوف والتأمل، أصبح من السهل أن نُسكت نداءات الروح تحت وطأة الواجبات اليومية. نُبرمج على العطاء المستمر، على الإنجاز المتواصل، إلى أن نفقد القدرة على التمييز بين التعب الذي يُثقل الجسد، والإرهاق الذي ينهك المعنى.
في هذا المقال، نذهب معًا في رحلة للتفريق بين التعب الجسدي الذي يطلب راحة، والإرهاق الوجودي الذي يطلب إعادة تعريف. رحلة تأملية تساعدنا على الإنصات، لا للجسد فقط، بل لما تهمسه أرواحنا في زوايا الصمت.
هو النوع الذي نعرفه جميعًا: إرهاق بعد يوم طويل، عضلات متيبّسة، عيون ثقيلة، حاجة ماسة إلى النوم أو طعام دافئ. التعب الجسدي عادةً ما يكون مؤقتًا، يمكن رصده بسهولة، وتخفيفه بوسائل معروفة مثل الراحة، التغذية الجيدة، أو ممارسة رياضة خفيفة تساعد على تجديد الطاقة. من علاماته:
الإرهاق الوجودي أعمق وأعقد. لا علاقة له بعدد الساعات التي نمتها أو الجهد الذي بذلته، بل يتعلق بالإحساس بفقدان المعنى، بانطفاء الشغف، وبالأسئلة التي تظل معلقة بلا إجابة مثل: "لماذا أفعل ما أفعله؟" أو "ما الجدوى من كل هذا؟".
هو التعب الذي يرافقك حتى حين تنام، ويوقظك بشعور الثقل لا في الجسد بل في القلب. لا يتحسّن مع الإجازات، بل قد يزيدها حدة لأنك في لحظات الصمت تصبح أكثر وعيًا بفراغك الداخلي. ومن علاماته:
الخلط بين النوعين يؤدي إلى استجابات خاطئة. فالشخص الذي يعاني من إرهاق وجودي قد يظن أن النوم أو العطلة كفيلة بإنقاذه، لكنه يعود من الراحة أكثر تعبًا، لأنه لم يعالج الجذر. والعكس صحيح: من يشعر بتعب جسدي قد يجلد نفسه ويحمّلها أسئلة وجودية، بينما كل ما يحتاجه هو استراحة.
الإرهاق الوجودي يتطلب عناية باطنية أكثر منها ظاهرية، حتى يتم تجاوزه بنجاح، إليك الطريقة:
تخصيص وقت يومي للتأمل أو الكتابة يساعد على تفريغ ما يتراكم في الداخل.
هل ما تفعله كل يوم يعكس قيمك؟ هل تختار حياتك أم تمشي فيها فقط؟
الحديث مع معالج نفسي أو مدرّب حياة قد يفتح نوافذ جديدة للفهم.
تقليل الضجيج، إبطاء الإيقاع، والبحث عن لحظات صادقة وسط الركام.
بينما يهدأ التعب الجسدي بالراحة، لا يُشفى الإرهاق الوجودي إلا بإعادة اكتشاف الذات. لا نحتاج دائمًا إلى سرير مريح بقدر ما نحتاج إلى أن نعود إلى سؤال جوهري: "هل ما أعيشه الآن يُشبهني؟"