كثيراً ما نسمع في محيطنا العربي تلك المزحة المتكررة عن "الطفل الوسط"، ذلك الذي لا يحمل مجد البكر ولا دلال آخر العنقود، فيقع في منطقة رمادية لا تحتفي به العائلة كما ينبغي. الأول يحتل القلوب بكونه البشارة الأولى، والصغير يحصد الحنان كله لأنه الأخير، أما الطفل في المنتصف، فلا أحد يتوقف كثيراً عنده... لا أحد يحتفل بوجوده كما يجب.
لكن وعْي بعض الأمهات اليوم بدأ يُضيء على هذه المساحة المهملة. فثمة من بدأت تلاحظ أن "الترتيب بين الإخوة" ليس مجرد تسلسل، بل تجربة شعورية كاملة قد تؤثّر في نظرة الطفل لنفسه. وهذا ما يدفعها للبحث عن سُبل حقيقية تجعل كلًّا من أطفالها يشعر بأنه مرئي، ومُقدَّر، ومحبوب، بغض النظر عن موقعه في خريطة العائلة.
تشير أبحاث علم النفس التربوي إلى أن شعور الطفل بفرادته داخل أسرته هو أحد أعمدة تكوين الهوية السليمة. فالطفل الذي يشعر بأنه مرئي ومُصغى إليه بشكل فردي، تتعزز لديه ثقة داخلية تقوده لاكتشاف إمكانياته، وتكوين صوت داخلي يحترم ذاته ويعرف قيمته.
أما حين يُعامل كرقم في ترتيب الأسرة، أو يُقارن بإخوته باستمرار، فينمو بداخله شعور غير مُعلن بالهامشية؛ ما قد يدفعه لاحقاً للبحث عن الاهتمام من مصادر خارجية، قد لا تكون آمنة أو بنّاءة.
ليست المسألة في الوقت، بل في النية والانتباه. إليك بعض الطرق التي يمكن للأهل اتباعها عملياً، حتى لو كانت الأسرة كبيرة والانشغالات كثيرة:
اختر يوماً في الشهر أو الأسبوع، وحدِّد سلفاً من هو الطفل الذي سيقضي وقتاً خاصاً معك. هذا التحديد المسبق يمنح الطفل شعوراً بالأمان والتوقع، ويخفف الغيرة بين الإخوة.
يمكن لهذا الوقت أن يكون في نزهة قصيرة، أو جلسة في المطبخ لإعداد وجبة، أو حتى دقائق قبل النوم للحديث والضحك فقط.
يُدهش الأطفال حين يرون أسماءهم مكتوبة بخط والديهم، لا على لوائح المهام، بل على ورقة صغيرة كُتب عليها: "أحببت طريقتك في مساعدة أختك اليوم."
هذه الرسائل الصغيرة تصنع أثراً كبيراً. يُفضل حفظها في صندوق خاص بكل طفل، ليعود إليها حين يحتاج إلى تذكير بحب والديه له.
بدلاً من مدح طفل على حساب آخر، يمكن قول: "أحببت طريقتك الهادئة في التفكير"، أو "أعجبني خيالك الواسع في الرسم".
حين نُظهر للطفل أن خصاله ليست أقل أو أكثر من غيره، بل مختلفة بطريقته الخاصة، نُنمّي في داخله الاعتزاز بما هو عليه.
جرّب أن تخبر كل طفل قصة عن نفسه، وكأنه بطل الرواية. قصة يوم ولادته، أو موقف طريف حصل له وهو صغير.
هذا النوع من القصص يُشعر الطفل أن له "تاريخاً خاصاً" يُروى، وأنه ليس مجرد تابع في قصة الآخرين.
من الأخطاء الشائعة أن يظن الأهل أن “العدل” يعني إعطاء الجميع القدر نفسه من الوقت والهدايا والانتباه.
لكن الطفل لا يحتاج إلى "المساواة"، بل إلى أن يحصل على ما يناسبه ويشعره أنه محبوب كما هو.
الطفل الحساس قد يحتاج إلى حضن أطول، والطفل الصاخب قد يحتاج إلى استماع هادئ.
والأمومة الحقيقية تعرف الفروق، وتحترمها، وتتعامل معها بلطافة لا تشعر الطفل أنه عبء، بل نعمة.
أحياناً، ينال الصغار اهتماماً مضاعفاً بطبيعتهم، ويُترك المراهق أو اليافع وكأنه أصبح "مكتفياً بنفسه".
لكن في الحقيقة، الطفل لا يكفّ عن حاجته إلى الاهتمام الفردي، مهما كبر.
والمراهقة تحديداً، بما تحمله من تحولات عاطفية، تحتاج إلى تواصل أعمق لا يَصدر من موضع التوجيه، بل من موضع الصداقة والثقة.
حين يشعر الطفل أن له مكانة خاصة، لا لأن والديه يحبانه فقط، بل لأنهما يعرفانه حقاً، تنشأ بداخله جذور هوية متماسكة، تجعله قادراً لاحقاً على خوض الحياة بثقة وهدوء.
والعائلة الكبيرة، حين تُدار بذكاء عاطفي، لا تكون عائقاً، بل بيئة خصبة لغرس هذا الإحساس بالتميز، شرط أن يُزرع في التربة الصحيحة: الحضور، والإصغاء، والحب الفردي.