نعتقد أحيانا أننا نبحث عن الحب، عن شريك يشبهنا، يكمّلنا، يتقاطع معنا في الرغبات والأحلام. لكن، في أعماق اللاوعي، هناك سؤال آخر أكثر صدقا وإرباكا:
هل نحن نبحث فعلا عن شريك حياة… أم عن شخص ينقذنا من وجع قديم لم يُشفَ بعد؟
الاختيارات العاطفية لا تحدث في الفراغ. إنها غالبا نتاج تجارب سابقة، وندوب نفسية خفية، وصور داخلية نحتتها الذاكرة منذ الطفولة، ثم طوتها في أعماق النفس. وما نظنه "حبا من أول نظرة" قد يكون أحيانا استجابة مألوفة لجرح لم نُعالجه.
في الطفولة، نحتاج إلى الاحتواء، التصديق، الحب غير المشروط. وإن لم نحصل عليه، نكبر ونحن نبحث عنه في أماكن أخرى لا شعوريا. قد ننجذب إلى شخص يذكرنا بطريقة ما بالشخص الذي تسبب بألمنا، ونحاول لا شعوريا "إصلاح" الحكاية معه. هنا لا تكون العلاقة عن الحاضر، بل محاولة لإعادة كتابة الماضي.
قد تقع امرأة تجاهلتها والدتها طوال الطفولة في حب رجل بارد عاطفيا. وقد ينجذب رجل كَبَتَ مشاعره طوال حياته إلى شريكة تحتاج من يُنقذها دائما، ليشعر بقيمته من خلال مساعدتها.
في الظاهر، يبدو هذا حبا. في العمق، هو توق لإغلاق جرح قديم بطريقة غير واعية.
العلاقات العاطفية كثيرا ما تعمل كمرآة، تعكس لنا ما نحاول تجاهله أو إنكاره. من نختاره وننجذب إليه قد لا يكون الشخص الذي نحتاجه فعلا، بل الشخص الذي "يعيد تحريك" أوجاع لم نواجهها. وبدل أن نحلّها، نُعيد عيشها.
لهذا السبب، قد نجد أنفسنا نُكرر الأنماط نفسها: نحب الشخص الخطأ، نغفر الإهمال، نتمسك بالعلاقات التي تستنزفنا، ونظن أن المشكلة في "عدم الحظ"، بينما الحقيقة هي في دواخلنا.
كثيرا ما يُقال إن الحب يشفي. وهذا جزئيا صحيح، لكنه لا يعفي الإنسان من مسؤولية شفاء ذاته أولا. فحين نُحمّل الطرف الآخر مسؤولية إسعادنا، أو سدّ نقصنا العاطفي، فإننا نحوله من "شريك" إلى "منقذ". وهذه وصفة مرهقة لعلاقة غير متوازنة.
فالمنقذ يتعب، والمُنقَذ يظل يشعر بالعجز، وتنهار العلاقة عند أول اختبار.
الخطوة الأولى تبدأ بالوعي: أن نرى الجرح دون خجل، وأن نفهم كيف يوجّه اختياراتنا دون أن ندرك. أن نسأل أنفسنا:
حين نُعالج الجرح، يتغير المعيار. نكف عن البحث عمّن "يُكملنا"، ونبدأ بالبحث عمّن "يُرافقنا". لا منقذ، بل شريك يسير معنا ونحن مكتفون بذاتنا.
في النهاية، الحب الحقيقي لا يشبه الأفلام ولا يعزف على أوتار الوجع القديم. الحب ناضج، ناعم، يزدهر في ضوء الوعي لا في ظل الجرح.
والعلاقة الصحية لا تكون بين منقذ وضحية، بل بين روحين اختارتا أن تتشاركا الطريق، لا أن تُعالجا الماضي في الحاضر.