وسط الزحام المتسارع من المهام والمواعيد والتوقعات، نعتاد أن نُصغي لكل الأصوات من حولنا: صوت الهاتف حين يرنّ، صوت المدير حين يطلب، صوت الطفل حين يبكي، صوت المجتمع حين يُملِي ما يجب وما لا يجب…
لكن ماذا عن صوتنا نحن؟ ذاك الذي لا يُسمَع إلا حين يصمت كل شيء.
في زمن تُقاس فيه الإنتاجية بعدد الرسائل المرسلة، والخطوات المنجزة، نكاد ننسى أن الحياة لا تُقاس فقط بما نُنجزه، بل أيضًا بمدى قربنا من أنفسنا.
هل توقّفنا يومًا لنسأل: هل أنا مرتاحة؟ هل ما أفعله الآن يشبهني؟ هل قلبي مطمئن أو مُثقل؟
الإصغاء إلى النفس ليس ترفًا روحيًّا كما يُظن. بل هو فن عميق، يُنقذنا من الانجراف، ويُعيد ترتيب البوصلة حين تختلط الاتجاهات. أن نُصغي إلى أنفسنا هو أن نُعيد بناء علاقة قديمة، انقطعت دون أن نشعر، مع أصدق ما فينا.
كثيرًا ما نغرق في التفاصيل اليومية: قائمة مهام، ورسائل غير مقروءة، واجتماعات متلاحقة، ومناسبات اجتماعية لا نرغب بها... كل ذلك يملأ الوقت، لكنّه يترك الروح فارغة.
لا يعود لدينا مساحة لنفكّر في "كيف أشعر؟"، "هل هذا يناسبني فعلًا؟"، "لماذا أتصرّف بهذا الشكل؟".
الانفصال عن الذات لا يحدث فجأة، بل يتسلّل في العادات الصغيرة. حين نُسكت صوتنا الداخلي مرارًا، يتعلّم أن يصمت من تلقاء نفسه.
من السهل الحديث عن الصوت الداخلي وأهميته، لكن المرحلة الأهم هي خوض خطوات حقيقية لسماعه، إليك نقطة البداية:
خصّصي وقتًا كل يوم للجلوس بصمت. لا هاتف، لا موسيقى، لا مشتّتات. فقط أنتِ.
الكتابة الحرة صباحًا أو قبل النوم تساعدك على اكتشاف ما يدور بداخلك. اتركي القلم يقول كل شيء.
لا تنتظري ردًا فوريًا. اسألي نفسك: "ما الذي أحتاجه الآن؟"، "هل أنا مرتاحة؟"، "ما الذي يُزعجني فعلًا؟"، ودعي الجواب يأتِ في وقته.
أحيانًا، يتحدث الجسد بوضوح أكثر من العقل. تسارُع نبضك، ضيق التنفّس، انقباض المعدة... كلها رسائل.
ذلك الشعور الغامض الذي يخبرك أن شيئًا ما ليس مناسبًا، يستحق الاستماع. ربما يعرف أكثر مما تتوقعين.
وختامًا، إن الإصغاء للنفس هو فعل محبة للذات، فحين نُصغي إلى أنفسنا، لا نصبح أنانيين، بل نكون صادقين. نسمح لذواتنا أن تكون حاضرة، مرئية، ومُعترف بها. وهذا الاعتراف الداخلي، هو بداية كل تغيير حقيقي، وكل قرار نابع من عمق، لا من ضغط.
في النهاية، لا أحد يعيش بداخلك سواك. فامنحي هذا الصوت فرصة أن يُسمَع.