header-banner
تطوير الذات

التخيل السلبي.. هل يساعدنا على العيش بشكل أفضل؟

تطوير الذات
فريق التحرير
1 يونيو 2025,9:00 ص

في عالمٍ يعج برسائل التحفيز والإيجابية، بات السعي خلف الإنجاز والتفاؤل المستمر أشبه بفرض اجتماعي، لذا قد يبدو الحديث عن "تخيّل الأسوأ" ضرباً من السلبية أو الدعوة إلى التشاؤم.

لكن، ماذا لو كان في هذا التمرين الذهني العكسي مفتاح لحياة أكثر توازناً، ورضاً، واستعداداً لتقلبات القدر؟

في هذا المقال، نُبحر مع الفلسفة التي تدعو - لا لليأس- بل للتدرب العقلي على مواجهة الفقد والخذلان، لا بغرض الاستسلام، بل للتحرر من التعلق، وتقدير اللحظة، والعودة إلى المعنى الحقيقي للعيش.

فكيف يساعدنا توقع الخسارة على كسب الذات؟ وكيف يمكن للتفكير بما قد نفقده أن يعلمنا فن الامتنان لما نملكه؟

التخيّل السلبي

5f33d255-c318-42b3-b249-9af86c8ad61c

هو مفهوم في الفلسفة الرواقية يُعرف باللاتينية بـ Premeditatio Malorum، أي "استبصار الشرور قبل وقوعها". قد يبدو هذا وكأنه وصف لكابوس أو عادة مدمرة، لكنه في الواقع أداة فعالة للنمو الشخصي والرضا الداخلي.

الجذور القديمة للتخيّل السلبي

أول من صاغ هذا المفهوم كان الفيلسوف الروماني الرواقي سينيكا، في حدود عام 4 قبل الميلاد. 

في رسائله إلى لوسيليوس، دعا الناس إلى تأمل الخسائر والمحن المحتملة، لا لإغراق النفس في الخوف، بل لتخفيف وطأته وتنمية الامتنان.

أما إبيكتيتوس، العبد السابق الذي أصبح فيلسوفاً في القرن الأول الميلادي، فقد علم أن تخيل الشدائد يساعدنا على بناء الصلابة النفسية والتجرد مما لا نملك السيطرة عليه.

وماركوس أوريليوس، الإمبراطور الروماني الشهير ومؤلف التأملات، كان يمارس التخيّل السلبي كجزء من تدريبه الروحي اليومي.

فكان يذكر نفسه باستمرار بزوال الأشياء، كي يستقبل الخسائر والانتكاسات بهدوء واتزان.

هؤلاء الثلاثة لم يكونوا مجرد حكماء قدماء، بل قدموا أدوات نفسية عملية، والآن بدأت العلوم الحديثة تكتشف فعالية تلك الأدوات وتؤكدها.

لماذا نتخيّل الأسوأ؟

لنعُد إلى الحاضر: لماذا قد يُقْدم أحدنا على تخيل الفشل، أو خيبة الأمل، أو حتى الموت، عن قصد؟

لأن ذلك يساعدك على أن تعيش حياة أكثر حضوراً، وسلاماً، ومعنىً.

الغاية الكبرى ترتبط بالأهداف الكبرى: مهمتك، طموحك الكبير، القمة التي تسعى لبلوغها. 

أما الغاية الصغيرة، فهي عن الرحلة ذاتها، عن السعادة التي تشعر بها وأنت تقوم بعمل له مغزى، حتى لو لم تجنِ في نهايته نتيجة ضخمة أو ملموسة.

والتخيل السلبي يُساعدنا على التحرر من ضغط الغاية الكبرى، ويُعيدنا إلى متعة الغاية الصغرى.

كيف يحدث ذلك؟

يُعلي من شأن الرحلة على حساب النتيجة

حين تفترض أنك ربما لن تُنهي روايتك، أو لن تطلق شركتك، أو لن تصل إلى قمة الجبل، تُجبر نفسك على طرح سؤال أعمق: هل أستمتع بالرحلة رغم كل شيء؟

التخيل السلبي يساعدنا على التخلي عن الهوس بالنتائج والتركيز على التجربة.

وإذا كنت تشعر بالحيوية أثناء العمل اليومي، فإن الرحلة تصبح الجائزة، وهذه هي جوهر الغاية الصغيرة.

أخبار ذات صلة

مختصرات رحلة البحث عن المعنى في الحياة

يفتح المجال للمفاجآت السعيدة

لنفترض أن حلمك هو الوصول إلى قمة جبل، لكن خلال التسلق، تكتشف واديا خلابا لم تخطط لزيارته، فيعجبك منظره، وتقرر أن تمكث فيه وتستكشفه.

حين تتصور احتمال ألا تصل إلى القمة، تمنح نفسك مرونة ذهنية تسمح باكتشاف مصادر جديدة ومفاجئة للمعنى والفرح.

بعض أجمل محطات الحياة نجدها حين نحيد عن الطريق المرسوم، والتخيّل السلبي يُحرّرك من التعلق بمسار صارم، ويفتح لك أبواب الاحتمال.

يقيك من فخ التكيّف اللذّي (hedonic adaptation)

هل لاحظت كيف أنك تشعر بنشوة عارمة حين تحقق هدفاً، ترقية، منزلا جديدا، أو رقما قياسيا شخصيا، ثم لا تلبث تلك النشوة أن تتلاشى؟

هذا ما يُعرف بـ التكيّف اللذّي، فطبيعتنا البشرية تميل إلى "تطبيع" حتى أعظم الإنجازات.

لكن إن كنت تُمارس التخيل السلبي، وتتأمل دورياً في احتمال ألا تحقق ذلك الهدف من الأساس، فإن قيمة الهدف تتضاءل في ذهنك، وتصبح أقل أهمية.

وحينها تتوقف عن ملاحقة "اللحظات العليا" التي تتلاشى سريعاً، وتبدأ في الرسو على شاطئ المعنى الحاضر.

تتخلى عن عقلية "سأكون سعيداً عندما..."، وتعيش في سلام مع "أنا سعيد الآن بينما...".

تخيّل الأسوأ لتعيش الأفضل

الفلاسفة الرواقيون لم يكونوا سوداويين ولا عدميين. لم يسعوا لإحباطك، بل أرادوا مساعدتك على أن تعيش حياة أكثر حكمة وصلابة واتزاناً.

لذا، نعم، تخيّل الفشل، تخيّل أن تسوء الأمور، ليس لتخويف نفسك، بل لتحريرها.

حين تفعل ذلك:

  • تتوقّف عن التعلق بأهداف بعيدة.
  • تستثمر في فرح التجربة ذاتها.
  • تفتح الباب للمفاجآت والاكتشافات.
  • تحمي نفسك من خيبة "وما بعد الإنجاز".

 

بكلمة واحدة: تبني حياة أكثر رسوخاً، وأكثر معنى.

لأن المفارقة العميقة هي: كلما استعددت ذهنيا للأسوأ، صِرت أكثر انفتاحا على جمال ما هو بين يديك الآن.

أخبار ذات صلة

قوة الخيال كأداة للتحكم في الذات والتغلب على الخوف والألم

 

footer-banner
foochia-logo