في الوقت الذي تتحدث فيه الشركات عن الولاء والالتزام وروح الفريق، ينسحب آلاف الموظفين بصمت من هذه المعادلة، دون ضجيج، دون إعلان، وربما دون أن يلاحظ أحد في البداية. هؤلاء لم يقدّموا استقالاتهم الرسمية، لكنهم فعلوا ما هو أخطر: توقفوا عن الإيمان بما يفعلونه.
هذه الظاهرة التي بات يُطلق عليها "الاستقالة الصامتة" لا تشير إلى ترك الوظيفة بالمعنى التقليدي، بل إلى انسحاب داخلي غير معلن، يتوقف فيه الموظف عن تقديم أي جهد يتجاوز الحد الأدنى المطلوب، ويبدأ بالتعامل مع عمله بوصفه مجرد وسيلة للعيش، لا مساحة للتطور أو كمصدر للإلهام.
ورغم أن هذه الحالة قد تبدو فردية في ظاهرها، فإن انتشارها الواسع حول العالم يضع أمامنا سؤالاً ملحاً: لماذا يفقد الموظف الشغف؟ وما الذي يدفعه إلى هذا النوع من الانفصال العاطفي؟ وهل يمكن أن تتحول هذه الظاهرة إلى خطر فعلي على المؤسسات واستقرارها؟
في هذا المقال، نغوص في مفهوم الاستقالة الصامتة، نحلل أسبابها، ونستعرض علاماتها، ونحاول فهم أبعادها النفسية والتنظيمية، لنرسم صورة أكثر وضوحاً لهذا السلوك المتزايد.
مصطلح "الاستقالة الصامتة" (Quiet Quitting) لا يعني بالضرورة ترك الوظيفة فعلياً، بل يشير إلى حالة نفسية وسلوكية يتوقف فيها الموظف عن بذل أي جهد إضافي يتجاوز الحد الأدنى من متطلبات العمل. هو الحضور الجسدي مع الغياب النفسي، العمل دون اندماج أو شغف، وإنجاز المهام بدافع الواجب فقط لا الرغبة أو الانتماء.
قد تتنوع الأسباب، لكنها غالباً ما تدور حول غياب التقدير، أو إرهاق مزمن ناتج عن ضغط العمل، أو ضعف التواصل مع الإدارة، أو شعور الموظف بعدم الجدوى من مساهماته. بعض الموظفين يمرون بمرحلة من الصراع الداخلي بين الالتزام والمسؤولية من جهة، والرغبة في الانفصال حمايةً للذات من جهة أخرى.
وتشير دراسة صادرة عن Gallup عام 2023 إلى أن ما يقارب 59% من الموظفين حول العالم لا يشعرون بأي انخراط حقيقي في وظائفهم، ما يدل على أن الاستقالة الصامتة لم تعد مجرد ظاهرة فردية، بل توجه متصاعد في بيئات العمل المعاصرة.
من أبرز المؤشرات:
هذه السلوكيات لا تعني بالضرورة التمرد، بل قد تكون صرخة غير منطوقة تعكس شعوراً بالإرهاق أو التهميش أو حتى فقدان الهدف.
من منظور الموظف، قد تكون الاستقالة الصامتة وسيلة دفاعية للنجاة من بيئة مرهقة نفسياً. فهي تسمح له بوضع حدود صحية، وتجنّب التورط في ضغوط مهنية لا تُقابل بالتقدير. أما من جهة المؤسسات، فقد تُفسّر على أنها مؤشر خطر على ثقافة العمل، يهدد الإنتاجية ويؤثر في أداء الفرق.
لا يمكن معالجة الاستقالة الصامتة بمجرد زيادة الرواتب أو الحوافز. إنها مشكلة أعمق تتطلب:
الاستقالة الصامتة لا تُعلن في بريد إلكتروني، ولا تأتي بمغلف يُسلَّم للمدير. إنها قرار داخلي، صامت ومؤلم، يتخذه الموظف حين يشعر أن صوته لا يُسمع، وأن قيمته تُقاس فقط بما ينجز لا بما يشعر. وبينما تبحث المؤسسات عن طرق للحفاظ على الكفاءات، يبقى الإصغاء الحقيقي هو الخطوة الأولى نحو استعادة الروح المفقودة في مكان العمل.