في زمنٍ تزداد فيه الخيارات وتتعاظم فيه التوقعات، لا يعود الإنجاز نهاية المطاف، بل يصبح نقطة انطلاق نحو مطلب جديد. وظيفة مرموقة؟ نريد أعلى؛ منزلا واسعا؟ نحلم بأكبر؛ علاقة مستقرة؟ نطمح لمثالية لا تخدشها التفاصيل.
هكذا نجد أنفسنا في سباق لا يتوقف، نلهث خلف تحسينٍ دائم لا نعرف إن كان نابعا من طموح صحي أم من فراغ داخلي لا يُملأ.
لكن ما الذي يجعلنا عالقين في هذا الفخ؟ ولماذا لا نشعر بالرضا حتى عندما نصل إلى ما كنا نظنه "الهدف المنشود"؟
عندما تكون الحياة عبارة عن ساحة للتنافس مع النفس والآخرين لتحقيق المزيد والمزيد، تسهم بعض الأمور في تضخيم هذا الشعور ليصبح جزءا من أسلوب حياة الإنسان، إليك أهم الأسباب:
منذ نعومة أظافرنا، نُربّى على فكرة أن الأفضل دائمًا ممكن. لا بأس في الطموح، لكن حين يتحول إلى نمط حياة يقتات على المقارنة والضغط، يصبح العقل غير قادر على التوقف. ننجز، فنشعر بلذة مؤقتة، ثم يعود العقل ليذكّرنا: "هناك من سبقك"، "تستطيع أكثر"، "لا تتوقف الآن". ومع الوقت، تفقد الإنجازات طعمها، ويغدو الإحساس بالرضا مؤجلا دوما إلى محطة قادمة.
في قلب هذا الفخ، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورا بارزا. نرى حياة الآخرين مصفّاة، مشذّبة، مكلّلة بالنجاحات، فنقارنها بيومياتنا الحقيقية المليئة بالصعود والهبوط. نشعر وكأننا متأخرون، ناقصون، أو ببساطة "لسنا كفاية". وهنا، لا يعود السعي خيارا، بل ضرورة لدرء الشعور بالنقص.
الخط الرفيع بين الطموح والإرهاق الوجودي غالبا ما يتلاشى في خضم السعي المستمر. حين لا نمنح أنفسنا فرصة التقدير والوقوف، يبدأ الجسد والعقل في إرسال إشارات التعب: قلق دائم، أرق، تشتت، وإحساس داخلي بأننا لا نعرف لماذا نسعى أصلا.
علم النفس يشير إلى أن هذا النمط مرتبط بما يُعرف بـ"الفراغ الداخلي" أو "الهوية غير المتكاملة"، حيث نحاول ملء شعور غامض بعدم الاكتمال بالإنجازات المتلاحقة، معتقدين أن السعادة تقبع دائما في المرحلة التالية.
ليس المطلوب أن نتخلى عن الطموح، بل أن نُعيد تعريفه. أن نُنجز، نعم، لكن أن نحتفل أيضا بما تحقق، ولو كان بسيطا. أن نترك فسحة للتأمل لا للسعي فقط. أن نطرح أسئلة مختلفة: "هل أنا منسجم مع ما أفعل؟"، "هل هذا السعي يضيف لروحي أم يستنزفها؟".
وأن نمنح أنفسنا الحق في التباطؤ أحيانا، لا كفشل، بل كاستراحة مستحقة.
في النهاية، لسنا آلات. لا ينبغي أن يكون يومنا مليئًا بالمهام حتى يُعتبر ناجحا، ولا حياتنا متخمة بالإنجازات حتى تستحق الاحترام. هناك جمال في الاكتفاء، في الرضا، في النظر حولنا والتصالح مع ما بين أيدينا.
السباق الحقيقي ليس إلى الأمام دوما، بل أحيانا... إلى الداخل.