من اللحظة التي يولد فيها الطفل، تبدأ رحلة من الالتصاق العاطفي والجسدي العميق بين الأم وطفلها، تُبنى فيها أواصر الحنان والرعاية والتفاني بلا حدود.
ولكن وسط هذا الارتباط المقدّس، تبرز حقيقة قد تكون صادمة لبعض الأمهات: هل من الطبيعي أن أشعر بالحاجة إلى استراحة من أطفالي؟
وهل هذا الشعور يعني أنني أقل حبًا أو اهتمامًا؟ الإجابة القصيرة: لا. والإجابة الأطول تحتاج إلى إعادة نظر في مفاهيم الإرهاق، والحدود، والحب الناضج
تعيش كثير من الأمهات في حلقة مستمرة من العطاء، تتوزع فيها بين الرضاعة، والتربية، والتنظيف، والاهتمام بالتفاصيل اليومية الصغيرة التي لا تنتهي.
ومع مرور الوقت، تنسى الأم أنها أيضًا إنسانة لها احتياجاتها الخاصة، وأوقات تعبها، وصوتها الداخلي الذي يهمس أحيانًا: أحتاج إلى وقت لنفسي.
يخترق شعور الرغبة في الابتعاد الصورة المثالية التي رسمها المجتمع للأمومة. يُنتظر من الأم أن تكون متاحة دومًا، صبورة، لا تكلّ ولا تملّ، وكأنها كائن خارق لا يصيبه الإنهاك.
وفي ظل هذه التوقعات، تشعر كثير من الأمهات بالذنب لمجرد التفكير في قضاء بعض الوقت وحدهن، ولو لبضع ساعات. لكن الحقيقة أن هذا الشعور لا يعني أنك "أم سيئة"، بل يعني أنك إنسانة تحاول الموازنة بين الحب والعطاء والرعاية الذاتية.
في مثل هذه اللحظات، لا تكون الاستراحة خيارًا، بل ضرورة للحفاظ على جودة العلاقة مع الطفل، وعلى سلامتك النفسية.
الاستراحة لا تعني الانفصال العاطفي أو التخلي عن الدور الأمومي، بل تعني إعادة الشحن. أحيانًا تكفي دقائق من الصمت، أو فنجان قهوة بهدوء، أو نزهة قصيرة خارج المنزل. وأحيانًا، يكون الحل في مشاركة الشريك أو الجدة أو صديقة موثوقة لفترة قصيرة، تعيد إليك توازنك الداخلي.
الأم المرتاحة، الحاضرة مع نفسها، أكثر قدرة على منح الحب الصادق غير المشروط. الطفل لا يحتاج أمًا مثالية لا تشتكي ولا تتعب، بل يحتاج أمًا حقيقية، تعلّمه أن الحياة فيها مدّ وجزر، وأن الحب لا يعني الذوبان الكامل، بل الحضور الناضج.
نعم، نحتاج أحيانًا إلى استراحة من أطفالنا. ليس لأننا لا نحبهم، بل لأننا نحبهم كثيرًا، ونريد أن نكون بجانبهم بأفضل نسخة من أنفسنا. المسافة الآمنة ليست انسحابًا، بل مساحة نلتقط فيها أنفاسنا لنعود إليهم أكثر قربًا، وصدقًا، وحنانًا.