header-banner
محمود درويش

17 عاماً على رحيل محمود درويش.. القصيدة كُتبت بماء الخلود

ثقافة
إسلام سمحان
9 أغسطس 2025,9:32 م

في التاسع من آب/أغسطس من كل عام، لا نُحيي فقط ذكرى رحيل شاعر بحجم محمود درويش، بل نطل على فلسطين من نافذة القصيدة والحب من قلب عاشق.

محمود درويش، الذي غاب جسده عام 2008، لم يترك وراءه ديوان شعر وحسب، بل خلَّف إرثًا فنيًّا وفلسفيًّا وفكريًّا بات جزءًا من الوعي الجمعي العربي.

هو ليس شاعر المقاومة فقط، بل شاعر الهوية، والقلق، والوجد، والحب، والانتماء المتأرجح بين وطنٍ بعيد، ومنافٍ لا تنتهي، وقلب لا يكفّ عن الخفقان.

رحيلٌ يشبه القصيدة الأخيرة

في صيف عام 2008، خضع محمود درويش لعملية جراحية دقيقة في القلب، هي الثالثة في مسيرته الجسدية مع الألم، لكن جسده، المُرهق من الكتابة والمنفى والحنين، لم يحتمل المزيد.

أجريت الجراحة في أحد مستشفيات هيوستن، تكساس، وبعد مضاعفات حرجة دخل في غيبوبة، ليغادر الحياة في التاسع من أغسطس/آب، وكأنه اختار الرحيل في ذروة الشعر، لا على هامشه.

جنازته، التي أُقيمت في رام الله، كانت مهيبة، حضرها الوطن بكامله، من سياسيين ومثقفين ومحبين، وكان تابوته ملفوفًا بالكوفية الفلسطينية، يرافقه النشيد، والدموع، والقصيدة.

لكن محمود كتب رحيله أيضًا، حين قال ذات يوم: وأنا حبةُ القمحِ التي ماتتْ لكي تُخْصِبَ ثانيةً.. سأخْرُجُ من سهولِ الروحِ حيًّا.. باحثًا عن ظلّ أغنيتي.. وهكذا كان: خرج من جسده ليُقيم في اللغة.

صاحب المديح العالي

90cb9c95-d2c4-4d7c-bb9d-394fefcab37e

"لاعب النرد" لم يكن يكتب القصيدة، بل كان يسكبها كما يُسكب الضوء على حائط معتم؛ كان يمدح اللغة، لا لأنها أداة، بل لأنها وطن بديل.

كان يعرف أن الجملة لا تُنقذ شعبًا، لكنّها قد تُنقذ فردًا من الموت البطيء؛ كتب من قلب النزيف، لكنه لم يستسلم للدم، بل قال:

 هذا البحر لي...
 هذا الهواء الرطب لي...
 وأسمائي — وإن ضاعت — لي.

هكذا كان يعيد صياغة الوجود، من خلال القصيدة، حتى لو كان العالم بأسره ضدّه.

أخبار ذات صلة

محمود درويش والجملة الاسمية... بين الشعرية والرمزية

محمود درويش والجملة الاسمية... بين الشعرية والرمزية

القصيدة كهوية.. والمنفى كيقين

درويش لم يُكتب على جدار واحد، بل كُتب في كل جدار مرّ عليه الفلسطيني والعربي والإنسان المنكسر.

ولد في قرية البروة، التي محيت عن الخريطة بعد نكبة 1948، فعرف منذ الطفولة أن الأرض لا تعني فقط مكانًا، بل ذاكرة وحنين وحرمان.

لم يبحث محمود عن خلاص سياسي بقدر ما فتش عن خلاص شعري، وكان يقول دائمًا: "الهوية هي ما نُورِّثه، لا ما نرثه... ما نخترعه لا ما نتذكره"، فجعل من القصيدة بطاقة هوية بديلة، ومن الحرف وطنًا لا يُصادر.

شاعرٌ بين الحب وفلسطين

e5058825-ffcc-42d9-aac5-c1e76caf2f1a

بين قصائد الوطن والاحتلال، هناك سطور خفية كتبها محمود للمرأة، للعشق، للغياب، لم يكن الحب عنده نزوة شعرية، بل هدوءًا مؤقتًا وسط إعصار التشريد.

كتب لحبيبته كما كتب لفلسطين، بذات الطهر والانكسار والرجاء:

لا أُريدُ منَ الْحُبِّ غَيْرَ الْبدَايَةِ، 

يَرْفو الحَمَامُ  فوْقَ ساَحَاتِ غَرْنَاطَتِي ثَوْبَ هَذَا النَّهارْ

في الْجِرَارِ كِثيرٌ من الْخَمْرِ للْعِيدِ من بَعْدِنَا

في الأَغاني نوافِذُ تكْفِي وَتَكْفِي ليَنْفَجِرَ الْجُلَّنَارْ..." 

فلم يخن وطنه وهو يكتب الغزل، ولم يخن محبوبته حين كتب عن المنفى.

بين السياسة والعاطفة

c86433ff-fd37-4838-96b4-88c80e6de1c6

لم يكن محمود درويش أسير القصيدة السياسية، ولا غريبًا عن القصيدة العاطفية؛ كان شاعرًا يمشي بين النقيضين بخفة عاشق ووعي مناضل.

في دواوينه، لا يمكن فصل فلسطين عن الحبيبة، ولا المنفى عن القبلة؛ لأنه كان يرى أن الإنسان لا يُختزل في صراعه فقط، بل في هشاشته أيضًا، في حنينه، وفي خيباته الصغيرة.

كتب في السياسة ما لم تكتبه البيانات ولا الخطب:

سجِّل
 أنا عربي
 ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألف
 وأطفالي ثمانية
 وتاسعهم سيأتي بعد صيف
 فهل تغضب؟

ثم عاد، في لحظة صفاء، ليكتب للحب كمن لم يعرف المنفى من قبل:

بكوب الشراب المرصع باللازورد
انتظرها،
بصبر الحصان المُعَدّ لمُنْحَدرات الجبالِ
انتظرها،
بذَوْقِ الأمير الرفيع البديع
انتظرها،
بسبعِ وسائدَ مَحْشُوَّةٍ بالسحابِ الخفيفِ
انتظرها،
بنار البَخُور النسائيِّ ملءَ المكانِ
انتظرها،
ولا تتعجَّلْ، فإن أقبلَتْ بعد موعدها
فانتظرها،
وإن أقبلتْ قبل وعدها
فانتظرها،
ولا تُجْفِل الطيرَ فوق جدائلها
وانتظرها،
لتجلس مرتاحةً كالحديقة في أَوْج زِينَتِها.. وانتظرها.

كان يعرف أن مقاومة الاحتلال تبدأ من مقاومة تفريغ الإنسان من مشاعره، ولذلك كان شاعرًا بكل ما في القلب من معنى، لا بكل ما في السياسة من شعار.

غياب جسد.. حضور لا ينطفئ

بعد سبعة عشر عامًا من الغياب، لا تزال قصائد محمود تُقرأ بصوت عالٍ ويتردد اسمه في المسارح، في المدارس، في الأغاني، وفي الميادين؛ كأنه لم يمت، بل فقط غاب قليلًا كي يُمهّد للغد.

كلما اشتد علينا هذا العالم، عدنا إلى درويش، لنبحث عن شطر نجاة، عن صورة تُرمم هشاشتنا، عن استعارة نلوذ بها من واقع مكسور.

قال مرة: "من أنا، لأقول لكم ما أقول لكم؟"، لكننا كنا نعرف: هو من يكتبنا، حتى حين لا نعرف أنفسنا.

أخبار ذات صلة

محمود درويش حاضر بروحه وكلماته في مهرجان القاهرة السينمائي

محمود درويش حاضر بروحه وكلماته في مهرجان القاهرة السينمائي

google-banner
footer-banner
foochia-logo