تحتل الكوميديا السورية مكانة خاصة لدى الجمهور العربي، بفضل أعمال خالدة مثل "مرايا"، "بقعة ضوء"، و"عيلة خمس نجوم"، التي لا تزال تحظى بالمشاهدة رغم مرور سنوات طويلة على إنتاجها، لما شكلته من بصمة في الدراما.
وفي السنوات الأخيرة، حجزت العديد من الأعمال التي قدمها المخرج السوري الليث حجو من "ضيعة ضايعة" بجزأيه، إلى "الخربة"، مكانها عند الجمهور الذي أحب شخصياتها، لحين توقف إنتاج هذا النوع من الكوميديا، التي تراجعت أخيراً ولم تعد تملك البريق الخاص بها.
"فوشيا" التقت يزن هشام شربتجي، مخرج مسلسل "نسمات أيلول" في رمضان 2025، الذي أكد أن مهمة إضحاك الناس أصعب من أن تبكيهم، وكذلك، الصحفي الفني والناقد عامر فؤاد عامر الذي رأى أن سبب تراجع الكوميديا السورية يعود إلى عدم الاستمرارية في المشاريع، فضلاً عن أسباب أخرى.
يقول الناقد عامر فؤاد عامر لـ"فوشيا" إن الدراما الكوميديّة نسق يختلف عن الأنواع الأخرى من الدراما، فهي تنطلق من فكرة إبداعيّة والفكرة تؤسس لمشروع والمشروع يستمر، ومعنى الاستمرار هنا لا يرتبط بالموسم أو بالإنتاج السنوي، فربما يكون كلّ سنة أو كل عدّة سنوات، لكن المهم ألا يتوقف، مؤكداً أنه يمكن القول إن الدراما السوريّة وعبر تاريخها تحتمل من الدراما الكوميدية ذات المشروع المستمر تجارب بسيطة وذات عدد غير كبير.
وأشار إلى أن البدايات كانت في الماضي وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتجلى الأمر مع مشروع نهاد جبر ودريد لحام في طرح المسلسلات الكوميدية "ملح وسكر" و"حمام الهنا"، واتسعت الدائرة لتشمل ما نسميه "مسرح الشوك".
أمّا التجربة الكوميديا اللاحقة فجاءت عبر لوحات منفصلة مثل لوحات "مرايا" عبر أجزائها المتعددة، وفيما بعد ومع الفترة الذهبية للدراما السورية كان مشروع "بقعة ضوء" بأجزائه جميعها.
بالتالي باتت اللوحة الكوميديّة هي الشكل الأكثر انتشاراً من غيره، على الرغم من وجود تجارب أخرى تعتمد على الحكاية المتماسكة في البيئة والمكان والشخصيات الثابتة في كلّ حلقة، مثل "ضيعة ضايعة" بجزأيه و"الخربة"، على حسب تغييره.
أكد المخرج يزن شربتجي في تصريح خاص لـ"فوشيا" أن الكوميديا تراجعت في الدراما السورية، نتيجة ندرة النصوص والكتاب القادرين على إيصال الحس الكوميدي على الورق، مشيراً إلى أنه فن صعب، ومن الصعب إضحاك نسبة كبيرة من الناس، ولكن من السهل أن تبكيهم.
وأوضح شربتجي أن القضايا السورية لم تتغير منذ الثمانينيات من الكهرباء، إلى العلاقات الاجتماعية وغيرها، والمختلف أن الأفكار كانت أبسط وتصل المشاهد بشكل أسهل.
أشار شربتجي إلى أن الممثلين كانوا أبسط وأصدق، وفي بعض حلقات "بقعة ضوء" كان يجتمع الكثير من الفنانين، لكن الآن من الصعب أن يجتمعوا معاً، إلى جانب أن حالة التبني كانت أعمق، مضيفاً: الأزمة الحقيقة الحالية هي النصوص وعدم توفر نص ذكي قريب من الجمهور، الذي يمكن أن يُضحك العائلة بأكملها.
وقال عامر فؤاد عامر إن الأسباب مرتبطة بفكرة المشروع والاستمراريّة فيه، ومثال على ذلك غياب أصحاب الفكرة عن مشروع "بقعة ضوء"، المتمثّل بالفنانين أيمن رضا وباسم ياخور، إذ لم تصل الأجزاء التي غابا عنها إلى الهدف المطلوب منه، وبطبيعة الحال الأمر يصل إلى الجمهور الذي يقول لسان حاله إن الأجزاء القديمة أفضل بكثير من الأجزاء التي تلتها، وليس ذلك فقط، إذ إن غياب واحد من هذين الفنانين عن أحد هذه الأجزاء أصاب ذلك الجزء بعدم الاكتمال المطلوب.
ولفت عامر إلى أنه يمكن إعادة الدراما الكوميديّة لسكتها الصحيحة من خلال اتجاهين، الأول عودة أصحاب المشاريع السابقة من جديد لإنتاج استمرارية من المشروع، والاتجاه الآخر هو ولادة مشاريع جديدة والمتابعة في إنتاجها وتطويرها، وهذا ما حدث في سلسلة "ما اختلفنا" بجزأيه الأول والثاني، وآمال الاستمرار في جزء جديد ثالث، وكذلك في المسلسل الكوميدي "نسمات أيلول".
طرح الكوميديا في "نسمات أيلول" اعتمد على إيصال حالة الألفة إلى المشاهد، وأن يشعر بأنه جزء من العائلة.
وحول الانتقادات الموجهة لحالة الضحك المفرط في "نسمات أيلول"، قال شربتجي: الجمهور لديه وجهة نظر محقة في بعض الأحيان، ولكن اليوم أزعجه الضحك الزائد، ولكن لم يزعجه حالة العنف والقتل المفرط التي تطرح في الكثير من الأعمال، وقال: أنا مع الضحك المجاني ولو كان دون سبب، ولكنه أفضل من حالة العنف التي يعيشها المجتمع اليوم، من المؤكد أنه يجب وجود مبرر للضحك.
وأوضح أنه كان هناك تجاوز لهذا الخط، وأن الاتفاق مع رشا شربتجي على تخفيض وتيرة الضحك في الحلقات اللاحقة، ولكن الانتقاد كان مجحفاً بحق العمل، مشيراً إلى أن هناك أساليب عديدة للكوميديا، ويمكن إضحاك الجمهور عن طريق دمعة، مهرج، أو إطلاق النكت، ولكن في "نسمات أيلول" كان الخيار باختيار العائلة العفوية المضحكة، المتنمرة على ذاتها.
ورأى عامر فؤاد عامر أن "نسمات أيلول" هو من أهم التجارب الكوميدية التي تابعها في الآونة الأخيرة، وأشار إلى أن الضحكات التي أتقنتها الشخصيّات هي من سمات قالب كوميديا الموقف، والفرق هنا أنّ الشخصيّات هي من أطلق الضحكات، أمّا في القالب الأساسي، فيتمّ وضع ضحكات جمهور لا نراه، وفقط نستمع لأصوات ضحكاته كما في سلسلة "فرندز" أو "مستر بين" وغيرها من التجارب الناجحة.
وأكد عامر أنه من حقّ الجمهور أن ينتقد ويرفض أحياناً، لكن المسألة هي أن القالب يقتضي مثل هذا الأمر، وهنا ندرك أن من انتقد لا يعرف هذا الأمر، ولا أقصد هنا أنه من الضروري أن يعرف ويدرك المسألة، ولكن هذا الأمر يجعلني أفترض -بالقياس على تجارب سابقة- أن من انتقد مسألة الضحك في مسلسل "نسمات أيلول" سيحبها لاحقاً ربما في العرض الثاني أو بعد سنوات.
اعتبر الكاتب والصحفي الفني عامر أن "نسمات أيلول" تجربة جيدة لعدّة أسباب، ذكر منها أن الأخوين شربتجي (رشا ويزن) قدما العمل على قياسات قالب كوميدي أكاديمي ومدروس، وهو قالب كوميديا الموقف، حيث تمّ طرح فكرة العمل عبر عائلة سورية تتقاطع ظروفها وهمومها مع أي نسبة كبيرة من نماذج العائلات في سوريا، وكذلك تمّ اختيار بيئة ريفيّة جديدة لم نرها من قبل، وهذا من أهم شروط كوميديا الموقف، أي طرح القصّة في بيئة جديدة.
وأوضح عامر أن من الأسباب التي تنال التقدير وتدل على دراية في طرح "نسمات أيلول" ككوميديا ناجحة، هو اختيار الممثلين، فوجود القديرة صباح الجزائري من الجيل القديم، وكذلك نادين تحسين بيك من جيل آخر، والممثلين الشباب من الجيل الجديد مثل ملهم بشر ودرويش عبد الهادي، هو اختيار موفق وسلسلة تحترم الأجيال كلها، وهذا على سبيل المثل، فهناك أسماء مهمة قدّمت أدوارها وأضافت للعمل، وكلّ شخص يعي ما يقوم به وباحتراف.
في حين قال شربتجي إن خيار معالجة قضية الفراغ التي يعيشه أبناء الريف وقلة الفرص والوسائل، والتعليم، والخدمات لديهم، كان من خلال هذه العائلة المتنمرة على ذاتها والحالة التي تعيشها.
وعن أفضل مخرج وعمل سوري قُدم في الدراما الكوميدية، قال يزن شربتجي إنه لا يستطيع إلا أن يكون متحيزاً لوالده المخرج الراحل هشام شربتجي كأفضل من قدم كوميديا في سوريا، مع العلم أن هناك الكثير من المخرجين قدموها بطريقة مختلفة.
وذكر شربتجي أن مسلسل "يوميات مدير عام" من أهم ما قُدم من كوميديا في سوريا، وهو من أفضل الأعمال التي قُدمت ودخلت إلى العائلة السورية، ولو عُرض في موسم رمضان 2025 لنافس الأعمال الجديدة.
وهذا ما وافقه عليه الناقد عامر الذي عبر عن ذلك بقوله: لا يمكن تجاوز اسم المخرج الراحل هشام شربتجي هنا فهو الأكثر إتقاناً للعمل الكوميدي الذي تقبله الجمهور العربي عموماً، واستقطب اسمه ليُخرج أعمال في كوميدية في لبنان والخليج وغيرها، لكن في الدراما السورية، نتوقف عند عدّة أعمال كوميدية له، أبرزها "يوميات مدير عام" و"عيلة خمس نجوم"، ومعظم سلسلة "مرايا" و"يوميات جميل وهناء" الجزء الأول.
أما من الجيل الحديث، فقد أتقن الليث حجو العمل الكوميدي وقدّمه بتحدٍ كبير مثل "ضيعة ضايعة" و"الخربة" و"ضبوا الشناتي" وغيرها. وبالنسبة للممثل الأفضل، فلا يمكن اختيار ممثل واحد هنا، فالعديد من النجوم أتقنوا الكوميديا وأحببناهم فيها، واختيار اسم واحد هو مهمة مستحيلة، على حد قول الناقد الفني.
ونوه عامر إلى أنه في بدايات الدراما السورية، يعتبر مسلسل "صح النوم" هو التجربة الأفضل، وقد احتل مساحته الكبيرة عند الجمهور العربي على الرغم من عدم وجود فضائيّات في ذلك الزمان.
كشف المخرج يزن هشام شربتجي لـ"فوشيا" أنه حاول تقديم نفسه بهوية خاصة، لعدة أسباب، أولها المقارنة مع والده الراحل هشام شربتجي، وانتظار ما سيقدم، لافتاً إلى أنه كان متخوفًا جداً من تجربته الأولى في الكوميديا، وحاول الابتعاد عن أسلوبه، ولكن المفاجئ أن العديد من أبطال العمل، الفنانة نادين تحسين بيك، والعديد من الأسماء شعروا بأن هناك روحًا واحدة في عمله وعمل والده.
وأضاف: حتى هذه اللحظة أشعر بالغيرة من المخرج هشام شربتجي، ودون وعي ربما تأثرت بأسلوبه، ولكنها مقارنة ظالمة بالنسبة لي بشخصية مثل هشام شربتجي.
يرى الناقد والصحفي الفني عامر فؤاد عامر أن سلسلة "عيلة النجوم" بدأت بنجاح كبير فاق التوقعات في الجزء الأول "عيلة 5 نجوم"، فكان أبطال العمل كوميديين حقيقيين أتقنوا النص الذي دخل كل البيوت بقوة.
وأشار إلى أن الأجزاء التي تلت ذلك الجزء لم توفق، لأنها بنيت على استثمار نجاح الجزء الأول، فضلاً عن تغيير الممثلين وبنية العمل ككل، بسبب استثمار النجاح ومحبة الناس للممثلين، استغل الإنتاج ذلك، وتدفقت الأجزاء على حساب المضمون واتضحت فكرة التهريج بشكل مؤسف بعد كلّ البريق الذي حققه نجوم "عيلة 5 نجوم" مثل سامية الجزائري وأمل عرفة وفارس الحلو وأندريه إسكاف.